الخليفة الزاهد
عمر بن عبد العزيز
* الشيخ أحمد فريد
بين يدي الترجمة:
فهذه ترجمة الخليفة الزاهد، والإمام العابد عمر بن عبد العزيز رحمه الله، ولو أنصفناه لكان هو المستفتح به هذه السلسلة لتقدمه في المجد على من سلف، ولمزيد الفضل والشرف، إنه المجدد الأول لشباب الإسلام على رأس المائة الأولى، ومن أعطر الناس سيرة وأطيبهم سريرة، أقبلت عليه الدنيا بخيلها ورجلها فأعرض عنها، رغبة في النعيم المقيم، والملك العظيم في جوار رب العالمَين، ملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت ظلماً وجوراً، وغير وجه الأرض في سنتين وخمسة أشهر قضى بعدها نحبه ولقي ربه.
قال أبو نعيم في ترجمته: كان واحد أمته في الفضل، ونجيب عشيرته في العدل، جمع زهداً وعفافاً، وورعاً وكفافاً، شغله آجل العيش من عاجله، وألهاه إقامة العدل عن عاذله، كان للرعية أمناً وأماناً، وعلى من خالفه حجة وبرهاناً، كان مفوهاً عليماً ومفهماً حكيماً([1]).
ونحن إذ نتشرف بنشر فضائله، ونظم مآثره، نرجو من الله الجليل الخير الجزيل.
قال أحمد بن حنبل رحمه الله: إذا رأيت الرجل يحب عمر بن عبد العزيز ويذكر محاسنه وينشرها، فاعلم أن من وراء ذلك خيراً إن شاء الله([2]).
ومن يقرأ سيرة هذا الإمام ولا يمتلأ قلبه بحبه، وقد جمع الفضائل وتنزهت نفسه عن القصور والرذائل، ظهرت عليه علامات النجابة منذ الصغر فختم القرآن ولم يشتغل بما يشتغل به الأمراء من الترف والثراء؛ ولكنه طلب الشرف الحقيقي والعز الدائم، فرحل إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجالس فقهاء المدينة وأخذ من علمهم وهديهم وسمتهم، وما تطلع يوماً للخلافة ولم يكن في نسل من تصيبه فقد كان من ولد عبد العزيز بن مروان، وكان الخلافة في نسل عبد الملك بن مروان، ولكن القدر الأعلى اختاره لها، وعلى حداثة سنه وقصر مدته حيث كانت شبيهة بخلافة الصديق الأكبر أبو بكر رضي الله عنه، رد المظالم، واستعمل أهل الخير والصلاح، وعزل أهل الجور والفساد، حتى صار استعماله للرجل تعديلاً له عند أئمة الجرح والتعديل. يقولون: استعمله عمر بن عبد العزيز، فأعز الله به الملة، ورفع منار السنة، وأخمد نار البدعة، فصار أهل البدع مقهورين أذلاء، لا يجرءون على الجهر ببدعتهم، وأمر بكتابة الحديث وجمعه، فكثر الخير، وعم الصلاح، وانتظمت أمور العباد.
عن عوانة بن الحكم قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد الشعراء إليه فأقاموا ببابه أياماً لا يؤذن لهم، فبينما هم كذلك يوماً وقد أزمعوا على الرحيل إذ مر بهم رجاء بن حيوة -وكان من خطباء أهل الشام- فلما رآه جرير داخلاً على عمر بن عبد العزيز أنشد يقول: يا أيها الرجل المرخى عمامته هذا زمانك فاستأذن لنا عمراً
قال: فدخل ولم يذكر من أمرهم شيئاً ثم مر بهم عدي بن أرطاة فقال جرير:
يا أيها الركب المزجى مطيته هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه إني لدى الباب كالمصفود في قرني
لا تنس حاجتنا لقيت مغفرة قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني
قال: فدخل عدي على عمر. فقال: يا أمير المؤمنين! الشعراء ببابك، وسهامهم مسمومة، وأقوالهم نافذة. قال: ويحك يا عدي!! ما لي وللشعراء؟
قال: أعز الله أمير المؤمنين إن رسول الله صلى الله عليه وسلم امتدح فأعطى، ولك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، قال: كيف؟ قال: امتدحه العباس بن مرداس السلمي فأعطاه حلة قطع بها لسانه([3]).
فأذن رحمه الله لجرير في الدخول عليه فدخل وهو يقول:
إن الذي بعث النبي محمداً جعل الخلافة للإمام العادل
وسع الخلافة عدله ووقاره حتى ارعوا وأقام ميل المائل
إني لأرجو فيك خيراً عاجلاً والنفس مولعة بحب العاجل
فقال: يا جرير ما أرى لك فيما هاهنا حقاً. قال: بلى يا أمير المؤمنين! أنا ابن سبيل ومنقطع بي. فأعطاه من صُلب ماله مائة درهم، ثم خرج فقال له الشعراء: ما وراءك؟ قال: ما يسوءكم، خرجت من عند أمير المؤمنين وهو يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، وإني عنه لراض وأنشأ يقول:
رأيت رقى الشيطان لا تستفزه وقد كان شيطاني من الجن راقيا([4])
ونسأل الله عز وجل أن يمن على أمة الإسلام بعمر، يعيد إلى الأمة عزها ومجدها، والله الموفق للطاعات، والهادي لأعلى الدرجات.
1- اسمه ومولده وصفته:
اسمه: عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب. الإمام، الحافظ، العلامة، المجتهد، الزاهد، العابد، السيد، أمير المؤمنين حقاً، أبو حفص، القرشي، الأموي، المدني، ثم المصري، الخليفة الزاهد، الراشد، أشج بني أمية([5]).
مولده: ولد عمر بُحلْوان قرية بمصر، وأبوه أمير عليها سنة إحدى وقيل: ثلاث وستين، وأمه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب([6]).
قال الفلاس: سمعت الخريبـي يقول: الأعمش، وهشام بن عروة، وعمر بن عبد العزيز، وطلحة بن يحيى، ولدوا سنة مقتل الحسين، يعني: سنة إحدى وستين، وكذلك قال خليفة بن خياط وغير واحد في مولده([7]).
صفته رحمه الله: قال سعيد بن عُفير: كان أسمر رقيق الوجه، حسنه، نحيف الجسم، حسن اللحية، غائر العينين، بوجهه أثر نفحة دابة([8]).
قال حمزة بن سعيد: دخل عمر بن عبد العزيز اصطبل أبيه وهو غلام فضربه فرس فشجه، فجعل أبوه يمسح عنه الدم ويقول: إن كنت أشج بني أمية إنك إذن لسعيد([9]).
وعن يحيى بن فلان قال: قدم محمد بن كعب القرظي على عمر بن عبد العزيز: وكان عمر حسن الجسم، قال فجعل ينظر إليه نظراً شديداً لا يطرف قال: فقال: ابن كعب مالي أراك تنظر إلي نظراً لم تكن تنظر إلي من قبل ذلك. قال: يا أمير المؤمنين: عهدي بك حسن الجسم، وأراك وقد اصفر لونك، ونحل جسمك، وذهب شعرك. فقال: يا ابن كعب: فكيف بك لو قد رأيتني في قبري بعد ثلاث، وقد انتدرت الحدقتان على وجنتي، وسال منخراي وفمي صديداً ودوداً، لكنت لي أشد نكرة([10]).
قال الثعلبي في لطائف المعارف: كان عمر بن الخطاب أصلع، وعثمان، وعلي، ومروان بن الحكم، وعمر بن عبد العزيز، ثم انقطع الصلع عن الخلفاء([11]).
2- ابتداء طلبه للعلم واستخلافه رحمه الله:
عن الزبير بن بكار عن العتبي قال: إن أول ما استبين من عمر بن عبد العزيز أن أباه ولي مصر وهو حديث السن يُشَك في بلوغه، فأراد إخراجه، فقال: يا أبت أو غير ذلك؟ لعله أن يكون أنفع لي ولك، ترحلني إلى المدينة، فأقعد إلى فقهاء أهلها، وأتأدب بآدابهم، فوجهه إلى المدينة، فاشتهر بها بالعلم والعقل مع حداثة سنه. قال: ثم بعث إليه عبد الملك بن مروان عند وفاة أبيه وخلطه بولده، وقدمه على كثير منهم، وزوجه بابنته فاطمة التي قيل فيها:
بنت الخليفة والخليفة جدها أخت الخلائف والخليفة زوجها
وقال أبو مسهر: ولي عمر المدينة في إمرة الوليد من سنة ست وثمانين إلى سنة ثلاث وتسعين([12]).
وقال السيوطي: جمع القرآن وهو صغير، وبعثه أبوه إلى المدينة يتأدب بها، فكان يختلف إلى عبيد الله بن عبد الله يسمع منه العلم، فلما توفي أبوه طلبه عبد الملك إلى دمشق، وزوجه ابنته فاطمة، وكان قبل الخلافة على قدم الصلاح أيضاً، إلا أنه كان يبالغ في التنعم، فكان الذين يعيبونه من حساده لا يعيبونه إلا بالإفراط في التنعم، والاختيال في المشية، فلما ولي الوليد الخلافة أمر عمر على المدينة، فوليها من سنة ست وثمانين إلى سنة ثلاث وتسعين وعزل فقدم الشام.
ثم إن الوليد عزم على أن يخلع أخاه سليمان من العهد وأن يعهد إلى ولده، فأطاعه كثير من الأشراف طوعاً وكرهاً، فامتنع عمر بن عبد العزيز، وقال: لسليمان في أعناقنا بيعة، وصمم، فطين عليه الوليد([13]). ثم شُفع فيه بعد ثلاث، فأدركوه وقد مالت عنقه، فعرفها له سليمان فعهد إليه بالخلافة([14]).
عن رجاء بن حيوة قال: لما كان يوم الجمعة لبس سليمان بن عبد الملك ثياباً خضراً من خز، ونظر في المرآة فقال: أنا والله الملك الشاب، فخرج إلى الصلاة يصلي بالناس الجمعة، فلم يرجع حتى وعك، فلما ثقل كتب كتاب عهده إلى ابنه أيوب وهو غلام لم يبلغ. فقلت: ما تصنع يا أمير المؤمنين؟ إنه مما يحفظ به الخليفة في قبره أن يستخلف الرجل الصالح. فقال: كتاب أستخير الله فيه، وأنظر ولم أعزم عليه. فمكث يوماً أو يومين ثم خرقه، ثم دعاني فقال: ما ترى في داود بن سليمان؟ فقلت: هو غائب بقسطنطينية وأنت لا تدري أحي هو أو ميت. قال: يا رجاء فمن ترى؟ فقلت: رأيك يا أمير المؤمنين، وأنا أريد أن أنظر من تذكر فقال: كيف ترى في عمر بن عبد العزيز؟ فقلت: أعلمه والله فاضلاً خياراً مسلماً. قال: هو والله على ذلك، ولئن وليته ولم أول أحداً من ولد عبد الملك لتكونن فتنة، ولا يتركونه أبداً يلي عليهم إلا أن أجعل أحدهم بعده -ويزيد بن عبد الملك يومئذ غائب على الموسم: قال فاجعل يزيد بن عبد الملك بعده، فإن كان مما يسكنهم ويرضون به.
قلت: رأيك فكتب بيده: عهد سليمان إلى عمر: بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من عبد الله سليمان أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز، إني وليته الخلافة بعدي، ومن بعده يزيد بن عبد الملك فاسمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله ولا تختلفوا فيطمع فيكم([15]).
وعن سهل بن يحيى بن محمد المروزي قال: أخبرني أبي عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: لما دفن عمر بن عبد العزيز سليمان بن عبد الملك وخرج من قبره سمع للأرض هدة أو رجة فقال: ما هذه؟ فقيل: هذه مراكب الخلافة يا أمير المؤمنين قربت إليك لتركبها. فقال: ما لي ولها نحوها عني، قربوا إلي بغلتي. فقربت إليه بغلته فركبها، فجاءه صاحب الشرطة يسير بين يديه بالحربة. فقال: تنح عني ما لي ولك، إنما أنا رجل من المسلمين، فسار وسار معه الناس حتى دخل المسجد، فصعد المنبر، واجتمع إليه الناس فقال: أيها الناس! إني قد ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم.
فصاح الناس صيحة واحدة: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضينا بك فَلِ أمرنا باليمن والبركة، فلما رأى الأصوات قد هدأت، ورضي به الناس جميعاً، حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله عز وجل خلف، واعملوا لآخرتكم، فإنه من عمل لآخرته كفاه الله تبارك وتعالى أمر دنياه، وأصلحوا سرائركم يصلح الله الكريم علانيتكم، وأكثروا ذكر الموت، وأحسنوا الاستعداد قبل أن ينزل بكم، فإنه هادم اللذات، وإن من لا يذكر من آبائه - فيما بينه وبين آدم عليه السلام- أبَاً حياً، لمعرق له في الموت، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها عز وجل، ولا في نبيها صلى الله عليه وسلم، ولا في كتابها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقاً.
ثم رفع صوته حتى أسمع الناس فقال:
يا أيها الناس! من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم([16]).
3- ثناء العلماء عليه ومحبة الخلق له
قال سفيان الثوري: الخلفاء خمسة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز([17]).
وعن زيد بن أسلم عن أنس رضي الله عنه قال: ما صليت وراء إمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الفتى -يعني: عمر بن عبد العزيز- وهو أمير على المدينة.
قال زيد بن أسلم: فكان يتم الركوع والسجود ويخفف القيام والقعود، له طرق عن أنس أخرجه البيهقي في سننه وغيره([18])، وسئل محمد بن الحسين عن عمر بن عبد العزيز فقال: هو نجيب بني أمية، وإنه ييعث يوم القيامة أمة وحده([19]).
وعن سفيان قال: كانت العلماء مع عمر بن عبد العزيز تلامذة([20]).
ولما جاء نعي عمر بن عبد العزيز قال الحسن: مات خير الناس([21]).
وعن أبي سعيد الفريابي قال أحمد بن حنبل: إن الله تعالى يقيض للناس في كل رأس مائة سنة من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب، فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائتين الشافعي([22]). وعن سهيل بن أبي صالح قال: كنت مع أبي غداة عرفة، فوقفنا لننظر لعمر بن عبد العزيز، وهو أمير الحاج، فقلت: يا أبتاه! والله إني لأرى الله يحبُ عمر، قال: لم؟ قلت: لما أراه دخل له في قلوب الناس من المودة، وأنت سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إن الله قد أحب فلاناً فأحبوه"([23]).
قال الذهبي رحمه الله: قد كان هذا الرجل حسن الخلق والخلق، كامل العقل، حسن السمت، جيد السياسة، حريصاً على العدل بكل ممكن، وافر العلم، فقيه النفس، ظاهر الذكاء والفهم، أواهاً منيباً، قانتاً لله تعالى حنيفاً، زاهداً مع الخلافة، ناطقاً بالحق مع قلة المعين، وكثرة الأمراء الظلمة الذي ملوه وكرهوا محاققته لهم، ونقصه أعطياتهم، وأخذه كثيراً مما في أيديهم مما أخذوه بغير حق، فما زالوا به حتى سقوه السم، فحصلت له الشهادة والسعادة، وعد عند أهل العلم من الخلفاء الراشدين، والعلماء العاملين([24]).
وعن ابن عون قال: كان ابن سيرين إذا سئل عن الطلاء قال: نهى عنه إمام الهدى. يعني: عمر بن عبد العزيز([25]).
قال جويرة بن أسماء: لما استخلف عمر بن عبد العزيز جاءه بلال بن أبي بردة فهنأه وقال: من كانت الخلافة شرفته فقد شرفتها، ومن كانت زانته فقد زنتها، وأنت كما قال مالك بن أسماء:
وتزيدين أطيب الطيب طيبا أن تمسيه أين مثلك أينا
وإذا الدر زان حسن وجوه كان للدر حسن وجهك زينا
4- خشيته وبكاؤه رحمه الله:
عن المغيرة بن حكيم قال: قالت لي فاطمة بنت عبد الملك: يا مغيرة! قد يكون من الرجال من هو أكثر صلاة وصياماً من عمر؛ ولكني لم أر من الناس أحداً قد كان أشد خوفاً من ربه من عمر، كان إذا دخل البيت ألقى نفسه في مسجده، فلا يزال يبكي ويدعو حتى تغلبه عيناه، ثم يستيقظ فيفعل ذلك ليلته أجمع([26]).
وعن عبد العزيز بن الوليد بن أبي السائب قال. سمعت أبي يقول: ما رأيت أحداً قط الخوف -أو قال: الخشوع- أبين على وجهه من عمر بن عبد العزيز([27]).
وعن مَزيد بن حوشب -أخي العوام- قال: ما رأيت أخوف من الحسن وعمر بن عبد العزيز، كأن النار لم تخلق إلا لهما([28]).
وعن هشام بن الغاز، قال: نزلنا منزلاً مرجعنا من دابق، فلما ارتحلنا مضى مكحول ولم يعلمنا أين ذهب، فسرنا كثيراً حتى رأيناه، فقلنا: أين ذهبت؟ قال: أتيت قبر عمر بن عبد العزيز فدعوت له، ثم قال: لو حلفت ما استثنيت ما كان في زمانه أخوف لله عز وجل من عمر، ولو حلفت ما استثنيث ما كان في زمانه أزهد في الدنيا من عمر([29]).
وعن قتادة قال: دخل على عمر بن عبد العزيز رجل يقال له: ابن الأهتم، فلم يزل يعظه وعمر يبكي، حتى سقط مغشياً عليه([30]).
وعن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك قال: بكى عمر بن عبد العزيز فبكت فاطمة، فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء فلما تجلى عنهم العسر قالت له فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين، مم بكيت؟ قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم بين يدي الله فريق في الجنة وفريق في السعير، قال ثم صرخ وغشي عليه([31]).
وعن عطاء بن رباح قال: حدثتني فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز أنها دخلت عليه فإذا هو في مصلاه يده على خده سائلة دموعه، فقلت: يا أمير المؤمنين! ألشيء حدث؟ قال: يا فاطمة إني تقلدت أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، والكبير، وذي العيال في أقطار الأرض فعلمت أن ربي سيسألني عنهم، وأن خصمهم دونهم محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت أن لا تثبت لي حجة عن خصومته فرحمت نفسي فبكيت([32]).
وعن عبد الله بن شوذب قال: حج سليمان ومعه عمر بن عبد العزيز فخرج سليمان إلى الطائف فأصابه رعد وبرق، ففزع سليمان فقال لعمر: ألا ترى ما هذا يا أبا حفص؟ قال: هذا عند نزول رحمته، فكيف لو كان عند نزول عذابه([33]).
وعن الحسن بن عميرة قال: اشترى عمر بن عبد العزيز جارية أعجمية فقالت: أرى الناس فرحين، ولا أرى هذا فرح؟ فقال: ما تقول لكع؟ فقيل له: أنها تقول كذا وكذا، فقال: ويحها حدثوها أن الفرح أمامها([34]).
وعن ميمون بن مهران قال: قرأ عمر بن عبد العزيز ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر)) [التكاثر:1]، فبكى ثم قال: ((حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ)) [التكاثر:2] ما أرى المقابر إلا زيارة، ولا بد لمن زار أن يرجع إلى الجنة أو النار([35]).
5- زهده رحمه الله:
عن مسلمة بن عبد الملك قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز أعوده في مرضه، فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لفاطمة بنت عبد الملك: يا فاطمة! اغسلي قميص أمير المؤمنين قالت: نفعل إن شاء الله. ثم عدت فإذا القميص على حاله فقلت: يا فاطمة! ألم آمركم أن تغسلوا قميص أمير المؤمنين، فإن الناس يعودونه قالت: والله ما له قميص غيره([36]).
عن سعيد بن سويد أن عمر بن عبد العزيز صلى بهم الجمعة، ثم جلس وعليه قميص مرقوع الجيب من بين يديه ومن خلفه، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين! إن الله قد أعطاك فلو لبست؟ فنكس ملياً ثم رفع رأسه فقال: أفضل القصد عن الجدة، وأفضل العفو عند المقدرة([37]).
قال مالك بن دينار: الناس يقولون: مالك زاهد، وإنما الزاهد عمر بن عبد العزيز الذي أتته الدنيا فتركها.([38]).
قال أبو أمية الخصي غلام عمر: دخلت يوماً على مولاتي فغدتني عدساً فقلت: كل يوم عدس؟ قالت: يا بني هذا طعام مولاك أمير المؤمنين([39]).
قال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الداراني وأبا صفوان يتناظران في عمر بن عبد العزيز وأويس القرني. قال أبو سليمان لأبي صفوان: كان عمر بن عبد العزيز أزهد من أويس، قال له: ولم؟ قال: لأن عمر ملك الدنيا فزهد فيها. فقال له أبو صفوان: وأويس لو ملكها لزهد فيها مثل ما فعل عمر. فقال أبو سليمان: لا تجعل من جرب كمن لم يجرب. إن من جرب الدنيا على يديه ليس لها في قلبه موقع، أفضل ممن لم تجر على يديه، وإن لم يكن لها في قلبه موقع([40]).
6- ورعه رحمه الله:
عن أبي عثمان الثقفي قال: كان لعمر بن عبد العزيز غلام يعمل على بغل له يأتيه بدرهم كل يوم، فجاءه يوماً بدرهم ونصف، فقال: ما بدا لك؟ فقال: نفقت السوق. قال: لا، ولكنك أتعبت البغل أرحه ثلاثة أيام([41]).
قال جعونة: لما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز جعل عمر يثني عليه فقال: يا أمير المؤمنين! لو بقي كنت تعهد إليه؟ قال: لا قال: ولم وأنت تثني عليه؟ قال: أخاف أن يكون زين في عيني ما زين في عين الوالد من ولده([42]).
وعن وهيب بن الورد قال: اجتمع بنو مروان على باب عمر بن عبد العزيز وجاء عبد الملك بن عمر ليدخل على أبيه فقالوا له: إما أن تستأذن لنا، وإما أن تبلغ أمير المؤمنين عنا الرسالة قال: قولوا: قالوا: إن من كان قبله من الخلفاء كان يعطينا ويعرف لنا موضعنا، وإن أباك قد حرمنا ما في يديه. قال: فدخل على أبيه فأخبره عنهم فقال له عمر: قل لهم: إن أبي يقول لكم: إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم([43]).
عن عمرو بن مهاجر أن عمر بن عبد العزيز كانت له الشمعة ما كان في حوائج المسلمين، فإذا فرغ من حوائجهم أطفأها ثم أسرج عليه سراجه([44]).
عن جرير بن حازم عن رجل عن فاطمة بنت عبد الملك قالت: اشتهى عمر بن عبد العزيز يوماً عسلاً، فلم يكن عندنا، فوجهنا رجلاً على دابة من البريد إلى بعلبك فأتى بعسل، فقلنا يوماً: إنك ذكرت عسلاً وعندنا عسل فهل لك فيه؟ قال: نعم، فأتينا به، فقرب ثم قال: من أين لكم هذا العسل؟ قال: قلت: وجهنا رجلاً على دابة من دواب البريد بدينارين إلى بعلبك، فاشترى لنا بهما عسلاً. قال: فأرسل إلى الرجل فجاءه فقال: انطلق بهذا العسل إلى السوق فبعه فاردد إلينا رأس مالنا، وانظر إلى الفضل واجعله في بيت مال المسلمين علف دواب البريد. ولو ينفع المسلمين قيئي لتقيأت([45]).
وعن عمر بن مهاجر قال: اشتهى عمر بن العزيز تفاحاً فقال: لو كان لنا -أو عندنا- شيء من التفاح؟ فإنه طيب الريح طيب الطعم، فقام رجل من أهل بيته فأهدى إليه تفاحاً، فلما جاء به الرسول قال عمر: ما أطيب ريحه وأحسنه ارفعه يا غلام فاقرئ فلاناً السلام، وقل له: إن هديتك قد وقعت منا بموقع بحيث تحب. فقلت: يا أمير المؤمنين! ابن عمك ورجل من أهل بيتك، وقد بلغك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية، ولا يقبل الصدقة. قال: ويحك إن الهدية كانت للنبي صلى الله عليه وسلم هدية، وهي لنا اليوم رشوة([46]).
وعن ربيع بن عطاء قال: أُتي عمر بعنبرة من اليمن فوضع يده على أنفه بثوبه فقال له مزاحم: إنما هي ريحها يا أمير المؤمنين قال: ويحك يا مزاحم! وهل ينتفع من الطيب إلا بريحه؟ قال: فما زالت على أنفه حتى رفعت([47]).
وعن يحيى بن سعيد قال: كتب عبد الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر بن عبد العزيز إنه رفع إلى رجل يسبك وربما قال حماد: يشتمك، فهممت أن أضرب عنقه فحبسته، وكتبت إليك لأستطلع في ذلك رأيك. فكتب إليه لو قتلته لاقتدتك به، إنه لا يقتل أحد بسبب أحد إلا من سب النبي صلى الله عليه وسلم، فاسببه إن شئت أو خل سبيله([48]).
7- تواضعه رحمه الله:
عن رجاء بن حيوة قال: سمرت ليلة مع عمر بن عبد العزيز فاعتل السراج فذهبت أقوم أصلحه فأمرني عمر بالجلوس، ثم قام فأصلحه ثم عاد فجلس، فقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز، وجلست وأنا عمر بن عبد العزيز، ولؤم بالرجل إن استخدم ضيفه([49]).
وعن أيوب قال: قيل لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين لو أتيت المدينة فإن قضى الله موتاً دفنت موضع القبر الرابع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. قال: والله لأن يعذبني الله بكل عذاب -إلا النار فإنه لا أصبر عليها- أحب إلي من أن يعلم الله من قلبي أني أرى أني لذلك أهل([50]).
عن بشير بن الحارث قال: أطرأ رجل عمر بن عبد العزيز في وجهه فقال: يا هذا لو عرفت من نفسي ما أعرف منها، ما نظرت في وجهي([51]).
وعن أبي سعيد المؤدب عن عبد الكريم قال: قيل لعمر: جزاك الله عن الإسلام خيراً. قال: لا بل جزى الله الإسلام عني خيراً([52]).
وعن عمر بن حفص قال: حدثنا شيخ قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز بدابق خرج ذات ليلة ومعه حرسي، فدخل المسجد، فمر في الظلمة برجل نائم فعثر به، فرفع رأسه إليه فقال: أمجنون أنت؟ قال: لا. فهم به الحرسي. فقال له عمر: مه. إنما سألني أمجنون أنت فقلت: لا([53]).
8- اتباعه للسنة رحمه الله:
عن زياد بن مخراق قال: سمعت عمر بن عبد العزيز وهو يخطب الناس يقول: لولا سنة أحييها، أو بدعة أميتها، لما باليت أن لا أعيش فواقاً([54]).
قال الذهبي: أظهر غيلان القدر في خلافة عمر بن عبد العزيز فاستتابه فقال: لقد كنت ضالاً فهديتني. فقال عمر: اللهم إن كان صادقاً وإلا فاصلبه واقطع يديه ورجليه، فنفذت فيه دعوته، فأخذ في خلافة هشام بن عبد الملك، وقطعت أربعته وصلب بدمشق في القدر.
وقال غيره: كان بنو أمية يسبون علي بن أبي طالب في الخطبة، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أبطله، وكتب إلى نوابه بإبطاله، وقرأ مكانه: ((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ)) [النحل:90]، فاستمرت قراءتها إلى الآن([55]).
وعن حزم بن أبي حزم قال: قال عمر بن عبد العزيز في كلام له: فلو كان كل بدعة يميتها الله على يدي، وكل سنة ينعشها الله على يدي ببضعة من لحمي، حتى يأتي آخر ذلك من نفسي، كان في الله يسيراً([56]).
وقد تقدم قول أحمد بن حنبل رحمه الله: إن الله تعالى يقيض للناس في كل رأس مائة سنة من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائتين الشافعي([57]).
9- درر من أقواله رحمه الله:
قال أبو الحسن المدايني: كتب عمر بن العزيز إلى عمر بن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يعزيه على ابنه: أما بعد: فإنا قوم من أهل الآخرة، أسكنا الدنيا، أموات أبناء أموات، والعجب لميت يكتب إلى ميت، يعزيه عن ميت، والسلام([58]).
وعن حمزة الجزري قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى رجل: أوصيك بتقوى الله الذي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها، فإن الواعظين بها كثير، والعاملين لها قليل([59]).
وعن عمر بن محمد المكي: قال: خطب عمر بن عبد العزيز فقال: إن الدنيا ليست بدار قراركم، دار كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فكم عامر موثق عما قليل مخرب، وكم مقيم عما قليل يظعن، فأحسنوا رحمكم الله منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، إنما التقوى كفيء ظلال قلص فذهب بينما ابن آدم في الدنيا ينافس فيها وبها قرير العين إذا دعاه الله بقدره، ورماه بيوم حتفه، وسلبه آثاره ودنياه، وصير لقوم آخرين مصانعه ومغناه، إن الدنيا لا تسر بقدر ما تضر، إنها تسر قليلاً وتجر حزناً طويلاً([60]).
وعن أبي عمران قال: قال عمر بن عبد العزيز: من قرب الموت من قلبه استكثر ما في يديه([61]).
وعن محمد بن عيسى بن عبد العزيز قال: كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه: "أما بعد فإن مدينتنا قد خربت، فإن يرى أمير المؤمنين أن يقطع لنا مالاً نرمها به فعل"
فكتب إليه العمر: "أما بعد فقد فهمت كتابك، وما ذكرت أن مدينتكم قد خربت، فإذا قرأت كتابي هذا فحصنها بالعدل، ونق طرقها من الظلم، فإنه مرمتها، والسلام..."([62]).
وعن رجل من ولد عثمان بن عفان: أن عمر بن عبد العزيز قال في بعض خطبه: "إن لكل سفر زاداً لا محالة، فتزودوا لسفركم من الدنيا إلى الآخرة، وكونوا كمن عاين ما أعد الله تعالى من ثوابه وعقابه، ترغبون وترهبون، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم، وتنقادوا لعدوكم، فإنه والله ما بسط أمل من لا يدري لعله لا يصبح بعد مسائه، ولا يمسي بعد صباحه، وربما كانت بين ذلك خطفات المنايا، فكم رأينا ورأيتم من كان بالدنيا مغتراً، وإنما تقر عين من وثق بالنجاة من عذاب الله، وإنما يفرح من أمن من أهوال يوم القيامة، فأما من لا يبرأ من كلم إلا أصابه جرح من ناحية أخرى، أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى نفسي عنه فتخسر صفقتي، وتظهر عيلتي، وتبدو مسكنتي، في يوم يبدو فيه الغني والفقير، والموازين منصوبة، لقد عنيتم بأمر لو عنيت به النجوم لانكدرت، ولو عنيت به الجبال لذابت، ولو عنيت به الأرض لشققت، أما تعلمون أنه ليس بين الجنة والنار منزلة، وأنكم صائرون إلى إحداهما([63]).
وعن عبد الرحمن بن ميسر الحضرمي أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: ليس تقوى الله بصيام النهار وقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك، ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله، وأداء ما افترض الله، فمن رزق بعد ذلك خيراً فهو خير إلى خير.
وعن ميمون بن مهران قال: أوصاني عمر بن عبد العزيز فقال: يا ميمون! لا تخلو بامرأة لا تحل لك، وإن أقرأتها القرآن، ولا تتبع السلطان، وإن رأيت أنك تأمره بمعروف وتنهاه عن منكر، ولا تجالس ذا هوى فيلقى في نفسك شيئاً يسخط الله به عليك([64]).
وعن عبد الله بن محمد بن سعد الأنصاري أن عمر بن عبد العزيز صعد المنبر واجتمع إليه الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، أيها الناس! فإني لم أجمعكم لأمر أحدثه فيكم، ولكن فكرت في هذا الأمر الذي أنتم إليه صائرون، فعلمت أن المصدق بهذا الأمر أحمق، والمكذب به هالك ثم نزل([65]).
وعن محمد بن مهاجر قال: كان عند عمر بن عبد العزيز سرير النبي صلى الله عليه وسلم وعصاه وقدحه وجفنته، فكان إذا دخل عليه النفر من قريش قال: هذا ميراث من كرمكم الله به، ونصركم به، وأعزكم به، وفعل وفعل..."([66]).
وعن عبد الله بن الفضل التميمي قال: آخر خطبة خطبها عمر بن عبد العزيز أن صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن في أيديكم أسلاب الهالكين، وسيتركها الباقون كما تركها الماضون، ألا ترون أنكم في كل يوم وليلة تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله تعالى، وتضعونه في صدع من الأرض، ثم في بطن صدع غير ممهد ولا موسد، قد خلع الأسباب، وفارق الأحباب، وسكن التراب، وواجه الحساب فقير إلى ما قدم أمامه، غنياً إلى ما ترك جده، أما والله إني لأقول هذا وأنا أعرف من أحد من الناس مثل ما أعرف من نفسي، قال: ثم وضع طرف ثوبه على عينيه فبكى ثم نزل، فما خرج حتى أخرج إلى حفرته رحمه الله تعالى([67]).
11- ما تمثل به من الشعر أو قاله:
عن محمد بن كثير قال: قال عمر بن عبد العزيز ذات يوم وهو لائم نفسه وعائبها:
أيقظان أنت اليوم أم نائم وكيف يطيق النوم حيران هائم
فلو كنت يقظان الغداة لحرقت محاجر عينيك الدموع السواجم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم
وتشغل فيما سوف تكره غبة كذلك في الدنيا تعيش البهائم([68])
عن عقيل بن مرة قال: أنشدني حرمي بن الهيثم لعمر بن عبد العزيز:
ولا خير في عيش امرء لم يكن له مع الله في دار القرار نصيب
فإن تعجب الدنيا أناساً فإنها قليل متاع والزوال قريب([69])
وعن يونس قال: كان عمر بن عبد العزيز يسير في جماعة فلما كثر الغبار تلثم ثم ذكر أبياتاً قالها عبد الأعلى القرشي:
من كان حيث تصيب الشمس جبهته أو الغبار يخاف الشين والشعثا
ويألف الظل كي تبقى بشاشته فسوف يسكن يوماً راغماً جدثاً
في قعر مظلمة غبراء مقفرة يطيل تحت الثرى في قعرها اللبثا([70])
حدث مسعود بن بشر أن رجلاً قال لعمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة:
تفرغ لنا فقال:
قد جاء شغل شاغل وعدلت عن طرق السلامة
ذهب الفراغ فلا فراغ إلى يوم القيامة([71])
12- وفاته رحمه الله وما قيل في رثائه:
توفي عمر بن عبد العزيز رحمه الله -بدير سمعان من أعمال حمص- لعشر بقين وقيل لخمس بقين، من رجب سنة إحدى ومائة، وله حينئذ تسع وثلاثون سنة وستة أشهر، وكانت وفاته بالسم، كانت بنو أمية قد تبرموا به، لكونه شدد عليهم وانتزع من أيديهم كثيراً مما غصبوه، وكان قد أهمل التحرز.
قال مجاهد: قال لي عمر بن عبد العزيز: ما يقول الناس في؟ قلت: يقولون مسحور. قال: ما أنا بمسحور وإني لأعلم الساعة التي سقيت فيها، ثم دعا غلاماً له فقال له: ويحك ما حملك على أن تسقيني السم؟ قال: ألف دينار أعطيتُهَا، وعلى أن أعتق. قال: هاتها، قال: فجاء بها فألقاها في بيت المال، وقال: اذهب حيث لا يراك أحد([72]).
وعن المغيرة بن حكيم قال: حدثتني فاطمة بنت عبد الملك قالت: كنت أسمع عمر في مرضه الذي مات فيه يقول: اللهم اخف عليهم موتي ولو ساعة من نهار. فلما كان اليوم الذي قبض فيه خرجت فجلست في بيت آخر وبيني وبينه باب وهو في قبة له، فسمعته يقول: ((تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوَّاً فِيْ الأَرْضِ وَلا فَسَادَاً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِيْنَ)) [القصص:83].
ثم هدأ فجعلت لا أسمع له حساً ولا كلاماً فقلت للوصيف الذي يخدمه: انظر أمير المؤمنين، فلما دخل عليه صاح، فوثبت، فدخلت عليه، إذا هو ميت، قد استقبل القبلة، وأغمض نفسه، ووضع إحدى يديه على عينيه، والأخرى على فيه([73]).
وعن عبيد بن حسان قال: لما احتضر عمر بن عبد العزيز قال: اخرجوا عني فلا يبقى عندي أحد، وكان عنده مسلمة بن عبد الملك قال: فخرجوا، فقعد على الباب هو وفاطمة قال: فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه، ليست بوجوه إنس ولا جان. قال: ثم قال: ((تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)) قال: ثم هدأ الصوت. فقال مسلمة لفاطمة قد قبض صاحبك، فدخلوا فوجدوه قد قبض، وغمض وسوي([74]).
نظر مسلمة بن عبد الملك إلى عمر مسجى فقال: يرحمك الله: لقد لينت لنا قلوباً قاسية، وأبقيت لنا في الصالحين ذكراً([75]).
قال كثير بن عبد الرحمن الخزاعي:
وليت فلم تشتم علياً ولم تخف بريئاً ولم تتبع سجية مجرم
وقلت فصدقت الذي قلت بالذي فعلت فأضحى راضياً كل مسلم([76])
وقال جرير:
تنعي النعاة أمير المؤمنين لنا يا خير من حج بيت الله واعتمرا
حملت أمراً عظيماً فاضطلعت به وسرت فيه بحكم الله يا عمرا
الشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا([77])
وعن عمر بن صالح الزهري قال: حدثني الثقة قال: لما بلغ محارب بن دثار موت عمر بن عبد العزيز دعا بكاتبه فقال: اكتب فكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فقال: امحه فإن الشعر لا يكتب فيه بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قال:
لو أعظم الموت خلقاً أن يواقعه لعدله لم يصبك الموت يا عمر
كم من شريعة حق قد نعشت لها كادت تموت وأخرى منك تنتظر
يا لهف نفسي ولهف الواجدين معي على العدول التي تغتالها الحفر
ثلاثة ما رأت عيني لهم شبهاً تضم أعظمهم في المسجد الحفر
وأنت تتبعهم لم تأل مجتهداً سعياً لهم سنن بالحق تفتقر
لو كنت أملك والأقدار غالبة تأتي رواحاً وتبياناً وتبتكر
صرفت عن عمر الخيرات مصرعه بدرير سمعان لكن يغلب القدر([78])
ونختم بما ذكره ابن الجوزي في خاتمة سيرته قال: بلغني أن المنصور قال: لعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر رضي الله عنه: عظني قال: بما رأيت أو بما سمعت قال: بما رأيت. قال: مات عمر بن عبد العزيز رحمه الله وخلف أحد عشر ابناً وبلغت تركته سبعة عشر دينار كفن منها بخمسة دنانير، واشترى له موضع قبره بدينارين، وقسم الباقي على بنيه وأصاب كل واحد من ولده تسعة عشر درهماً. مات هشام بن عبد الملك وخلف أحد عشر ابناً فقسمت تركته وأصاب كل واحد من تركته ألف ألف، ورأيت رجلاً من ولد عمر بن عبد العزيز قد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله عز وجل، ورأيت رجلاً من ولد هشام يتصدق عليه([79]).
([1]) حلية الأولياء (5/254).
([2]) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي حققه نعيم زرزور (75) طبعة دار الكتب العلمية
([3]) سيرة عمر لابن الجوزي (198) مختصراً.
([4]) سيرة عمر لابن الجوزي (201) مختصراً.
([5]) سير أعلام النبلاء للذهبي (5/114).
([6]) تاريخ الخلفاء للسيوطي (288).
([7]) سير أعلام النبلاء (5/115).
([8]) السابق (5/116).
([9]) سير أعلام النبلاء (5/115، 116).
([10]) طبقات ابن سعد (5/370) وانظر سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (15)
([11]) نقلاً عن تاريخ الخلفاء للسيوطي (244).
([12]) سير أعلام النبلاء (5/117) باختصار.
([13]) أي: أدخله حجرة وسد جميع منافذها بالطين حتى يموت جوعاً.
([14]) تاريخ الخلفاء (229، 230).
([15]) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (59-60).
([16]) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز (65، 66).
([17]) تاريخ الخلفاء (228)، والصحيح أن خامس الخلفاء الراشدين الحسن بن علي رضي الله عنهما، وقد ولي الخلافة ستة أشهر بعد مقتل أبيه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة" وكان تمام الثلاثين سنة ستة أشهر للحسن بن علي رضي الله عنهما.
([18]) السابق (230).
([19]) السابق (230) وأبو نعيم في الحلية (5/254).
([20]) سيرة عمر لابن الجوزي (35).
([21]) سيرة عمر لابن الجوزي (35).
([22]) سيرة عمر لابن الجوزي (74).
([23]) سير أعلام النبلاء (5/119).
([24]) سير أعلام النبلاء (5/120).
([25]) تاريخ الخلفاء للسيوطي (234).
([26]) حلية الأولياء (5/260) وطبقات ابن سعد (5/367).
([27]) حلية الأولياء (5/260).
([28]) طبقات ابن سعد (5/198).
([29]) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (37).
([30]) سيرة ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (213).
([31]) سير ومناقب عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي (213، 214).
([32]) سير أعلام النبلاء (5/131، 132).
([33]) حلية الأولياء (5/288).
([34]) حلية الأولياء (5/288) وسيرة عمر لابن الجوزي (216).
([35]) سيرة عمر لابن الجوزي (218، 219) وانظر الحلية (5/317).
([36]) حلية الأولياء (5/258) وسير أعلام النبلاء (5/134).
([37]) حلية الأولياء (5/261)، وسير أعلام النبلاء (5/134)، وطبقات ابن سعد (5/402).
([38]) تاريخ الخلفاء (234) وسير أعلام النبلاء (5/134).
([39]) تاريخ الخلفاء (234).
([40]) سيرة عمر لابن الجوزي (184).
([41]) حلية الأولياء (5/260).
([42]) حلية الأولياء (5/267)، تاريخ الخلفاء (239).
([43]) حلية الأولياء (5/267).
([44]) سيرة عمر لابن الجوزي (98).
([45]) سيرة عمر لابن الجوزي (189)
([46]) سيرة عمر لابن الجوزي (189)
([47]) سيرة عمر لابن الجوزي (193)
([48]) طبقات ابن سعد (5/369).
([49]) حلية الأولياء (5/332).
([50]) سيرة عمر لابن الجوزي (205)، وطبقات ابن سعد (5/404)
([51]) سيرة عمر لابن الجوزي (206).
([52]) سيرة عمر لابن الجوزي (206).
([53]) طبقات ابن سعد (397).
([54]) سيرة عمر لابن الجوزي (97)، وابن سعد في الطبقات (5/383)
([55]) تاريخ الخلفاء (243).
([56]) طبقات ابن سعد (5/343).
([57]) سيرة عمر لابن الجوزي (74).
([58]) حلية الأولياء (5/266)، وسيرة عمر لابن الجوزي (250).
([59]) حلية الأولياء (5/267)
([60]) حلية الأولياء (5/792)، وسيرة عمر لابن الجوزي (232، 233).
([61]) حلية الأولياء (5/316).
([62]) سيرة عمر لابن الجوزي (110).
([63]) سيرة عمر لابن الجوزي (232).
([64]) سيرة عمر لابن الجوزي (246).
([65]) سيرة عمر لابن الجوزي (251)
([66]) سيرة عمر لابن الجوزي (253)
([67]) سيرة عمر لابن الجوزي (260)
([68]) سيرة عمر لابن الجوزي (261).
([69]) سيرة عمر لابن الجوزي (262).
([70]) سيرة عمر لابن الجوزي (262، 263).
([71]) سيرة عمر لابن الجوزي (266).
([72]) تاريخ الخلفاء (246).
([73]) سيرة عمر لابن الجوزي (325).
([74]) سيرة عمر لابن الجوزي (325، 326).
([75]) سيرة عمر لابن الجوزي (329).
([76]) سيرة عمر لابن الجوزي (333).
([77]) سيرة عمر لابن الجوزي (335، 336).
([78]) سيرة عمر لابن الجوزي (335، 336)
([79]) سيرة عمر لابن الجوزي (338).
منقول للشيخ أحمد فريد