الدكتور خالد يونس خالد
ملاحظات منهجية
هذه الدراسة تعالج موضوع اللهجات من زاوية دراسة الفكر النقدي لعميد الأدب العربي طه حسين في شكه بالشعر الجاهلي معتبرا اللغة عاملا من عوامل الشك. وينطلق الكاتب في هذا البحث، من الخاص إلى العام، أو من الأجزاء التي تشك وترفض وتنكر الشعر الجاهلي للوصول إلى الفكرة الكلية وهي وجود الشعر الجاهلي ودرجة صحته، واللغة التي كتب بها. وهكذا بالنسبة للغة القرآن الكريم. وعليه ينبغي عدم التسليم بصحة الافتراضات التي طرحها طه حسين والرواة والمستشرقون قبل التدقيق والتحقق منها، وذلك عبر الدراسة والاستقراء لمعرفة كيفية سيطرة لهجة قريش على اللهجات العربية الأخرى لتصبح لغة الشعر الجاهلي ولغة القرآن التي نسميها اليوم، اللغة العربية الفصحى. وهي لغة العرب التي تعتبر رمز شخصيتهم وعنوان كرامتهم، كما أصبحت لغة الاسلام التي تعتبر فخر الأمة الاسلامية والمسلمين جمعاء. إذن لاينطلق المنهج من نفي أو إنكار أو إثبات صحة الشعر الجاهلي واللغة العربية الفصحى كقاعدة كلية عامة إلاّ من خلال الاستقراء، ورد الفروع إلى أصولها مدعومة بالمصادر المختلفة والمتباينة، والإشارة إلى مواطن القبول والرفض للوصول الى اليقين.
اللغة والنقد الأدبي
اللغة وعاء الثقافة، والنقد "فن تمييز الأساليب"(1) ويعتبر "في المحيط الانساني نشاطا عقليا هدفه التمييز بين ما هو جيد وما هو رديء. وما هو جوهري وما هو تافه. وعليه فالنقد هو عملية كشف الحقيقة من الباطل، والصحيح من الخطأ، وهو تحرير العقل من قيد التقليد ومن اللامبالاة لبيان ما هو مفيد ونافع" (2). بهذا المعنى فالنقد كما عبر عنه ميشال عاصي "نوع من أنواع النشاط النظري في الأدب، قوامه البحث في نشاطات الانسان أية كانت، نظرية أو عملية، في الأدب أو في واقع الحياة، ابتغاء التحليل والدراسة، وبيانا لمواضع الخطأ والصواب، استنادا لوجهة نظر الناقد ومقاييسه ومفاهيمه"(3). ولكن في كل الأحوال فالنقد "لغة تنكب على اللغة. واللغة بطبيعتها تحمل معها قوانين فهمها التي يتفق على اختزانها وتمثلها كلّ من المتكلم والمستمع. ولأنه لغة تحتال لفهم آليات لغات أخرى، فهو يرتبط، دون شك، بهذه اللغات الأخرى أيضا، وهذا يعني أن الخطاب النقدي هو خطاب متصل بخطابات أخرى، وبظروف إنتاج معينة تهيمن على هذه الخطابات المجاورة له. وعملية المجاورة بين الخطابات وظروف الانتاج المهيمنة عليها هي ما نسميه بالفضاء النقدي"(4).
العلاقة الدائرية بين اللغة والتاريخ والفكر
لا يمكن فصل اللغة عن التاريخ والفكر، فهناك علاقة ثلاثية دائرية تفاعلية بين اللغة والفكر والتاريخ(5). فإهمال العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة يؤدي الى الفوضى في اللغة العربية في مواجهة الحداثة الفكرية بشكل يسيء استعمال المصطلحات أو فهمها. هناك متحزبون يأخذون من الخطاب الديني وسيلة لتكفير الذين لا تتفق آراؤُهم مع آراء حزبهم، ويرفضون الحوار العلمي ويهملون تطور اللغة والفكر الذي حصل بسبب التطور السياسي والاجتماعي. وهناك في الجانب الآخر مَن يقتبس من الخارج بشكل لاعقلاني ولاعلمي متجردا من العوامل التاريخية والتطور الفكري للغة. وهذا قد يؤدي الى إساءة فهم كثير من المصطلحات التي يجب دراستها وفهمها قبل استعمالها في اللغة الجديدة.
القحطانية والعدنانية والعلاقة بينهما
يقسم مؤرخو الأدب العربي (العربية) على قسمين:
القسم الأول: (العربية البائدة) أي التي أبيدت قبل مجيء الاسلام، وكانت في شمال الحجاز قرب حدود الآراميين. وتسمى أيضا (عربية النقوش) لأنه تعرَف الناس عليها عن طريق النقوش. وقد ضبغت هذه اللغة بالصبغة الآرامية، وابتعدت عن العربية وبادت(6). ولم يُعرف عنها شيء إلاّ ما ورد في الكتب المقدسة والشعر الذي وصل إلينا مؤخرا(7). ومن القبائل العربية التي تكلمت هذه العربية البائدة، على سبيل المثال (ثمود) التي وردت في القرآن الكريم أكثر من مرة. منها الآية الكريمة : (كذبت ثمودٌ وعادٌ بالقارعـةِ. فأمّا ثَمودُ فأُهلكوا بريحٍ صَرصَر عاتية). (سورة الحاقة، آية 4-6).
القسم الثاني: (العربية الباقية) وهي العربية التي تتكلم بها العرب. وأقدم آثار العربية الباقية هي الأدب الجاهلي. وهو الأدب الذي تناقلته الألسن بعد مجيء الاسلام. ولم يُدَون في عصر الاسلام بسبب انشغال العرب بالحروب، وهذا ما أدى إلى بعض التحريف. ولكن هذا لايجعلنا ننكر وجود ذلك الأدب وصحته، لأن التحريف لا يعني الإنكار. كما أن بعض التحريف لا يعني أن كل الأدب الجاهلي غير صحيح(8).
تنقسم (العربية الباقية) أو العرب الباقية (9) على قسمين:
الأول: (العرب العاربة) وهم العرب الأصليون، شعب قحطان أو من (قحطان). وموطنهم بلاد اليمن. ومن أشهر قبائلهم "جُرهم ويَعرب. ومن يعرب تشعبت القبائل والبطون من فرعين كبيرين هما كهلان وحمير"(10).
الثاني: (العرب المستعربة) وهم أحفاد اسماعيل بن ابراهيم. سموا بالمستعربة لأنهم ليسوا من العرب الأصليين. فقد كان اسماعيل يتكلم العبرانية أو السريانية. وكان يسكن مع أمه (هاجر) بمكة. فنزلت جُرهم من القحطانية (العرب العاربة) بمكة، وتزوج إسماعيل منهم، وتعلم منهم، هو وأبناؤه العربية. وهؤلاء العرب المستعربة يسكنون الحجاز ونجد وأواسط الجزيرة العربية(11).
هناك حديث نبوي شريف بهذا الصدد. قال إبن عباس رضي الله عنهما، قال النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام: "رحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم، أو قال: لو لم تغرِف من الماء، لكانت زمزم عينا معينا" قال: فشربت، وأرضعت ولدها، فقال لها الملَك، لاتخافوا الضيعة فإن ههنا بيتا لله يبنيه هذا الغلام وأبوه، وإن الله لايضيع أهله، وكان البيت مرتفعا من الأرض كالرابية تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وعن شماله، فكانت كذلك حتى مرَّت بهم رفقةً من جُرهم، أو أهل بيت من جُرهم مقبلين من طريق كداءَ، فنزلوا في أسفل مكة، فرأوا طائرا عائفا فقالوا: إن هذا الطائر لَيدور على ماء لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماءً، فأرسلوا جريا أو جريين، فإذا هم بالماء. فرجعوا فأخبروهم بالماء، فأقبلوا وأم اسماعيل عند الماء، فقالوا أتأذنين لنا أن ننزل عندكِ؟ قالت نعم، ولكن لا حق لكم في الماء، فقالوا نعم". قال ابن عباس: قال النبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام: "فألفى ذلك أم اسماعيل، وهي تُحبُّ الأُنس، فنزلوا، فأرسلوا الى أهليهم فنزلوا معهم، حتى إذا كانوا بها أهل أبيات منهم، وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفسَـهم وأعجبهم حينَ شبَّ، فلما أدركَ، زوَّجوه امرأة منهم"(12).
هناك دراسات تشير الى أن اللغات اليمنية القديمة تختلف كثيرا عن اللغة العربية الشمالية، وأنها مستقلة عنها. ولكنهما تشكلان مع اللغة الحبشية الشُعبة السامية الجنوبية أو الشُعبة السامية الجنوبية الغربية. واللغات اليمنية تفرعت منها عدة لهجات أهمها اللهجات المعينية نسبة الى المعينيين الذين أسسوا أقدم مملكة بجنوب اليمن. واللهجات السبئية التي تنتسب الى السبئيين الذين أقاموا مملكتهم على أنقاض المعينيين. واللهجات الحميرية القديمة التي تغلبت على السبئية حوالي القرن الخامس الميلادي. واللهجات القتبانية نسبة الى القتبانيين الذين أسسوا دولتهم في شمال عدن، واللهجة الحضرمية في حضرموت(13).
الصراع اللغوي واللهجات العربية
هناك صراع لغوي على مر التاريخ وقد تحتاج عملية الصراع إلى قرون عديدة إلى أن تتم سيطرة لغة على لغة أخرى. لذلك تغَلبُ لغة على لغة أخرى يكون تدريجيا وليس فجائيا. ومن خلال الصراع اللغوي يمكن أن تتغلب لغة على لغة أخرى في حالتين:
الحالة الأولى: نسبة نمو سكان أحد الشعبين المجاورين وتضييق حدود الشعب المتزايد في العدد إلى درجة يلجأ أبناء الشعب إلى حدود الشعب المجاور. ويزداد الإحتكاك ويشتد الصراع اللغوي مما يؤدي إلى السيطرة. ويُشترط أن تكون لغة الشعب الكثير السكان لغة أكثر رقيا وأفرادها أكثر ثقافة وحضارة. مثلا: طغت اللغة الألمانية على المناطق المجاورة لألمانيا بسويسرا والنمسا، وقضت على لهجاتها الأولى.
الحالة الثانية: "تغلغل نفوذ أحد الشعبين في الشعب المجاور" فتتغلب لغة الجانب الأكثر قوة ونفوذا وحضارة. مثلا: هزيمة لغة الباسك أمام اللغة الفرنسية واللغة الأسبانية(14). وقد تبدو هذه العملية غير إنسانية أو ربما استعمارية حين تسيطر لغة قوية على لغة ضعيفة. ولكننا نشرح هنا ما جرى وما يجري في الواقع بغض النظر عن إتفاقنا أو عدم إتفاقنا مع الحَدث، فليس كل ما هو واقعي إنساني أو مقبول.
لقد إحتكت اللغة العربية باللغات اليمنية القديمة ودخلت في صراع معها مدة طويلة إلى أن تمكنت من السيطرة عليها في المراحل الأخيرة من العصر الجاهلي. ومع ذلك فقد أصابت اللغة العربية بعض التحريف في الأصوات والمفردات والقواعد، فأوجدت لهجات عربية جديدة في الجنوب، مختلفة عن لهجات الشمال. ومع السنين تمكن العرب في الشمال بالتفاهم مع أهل اليمن، ثم توحيد اللغة إلى حد كبير ، فجاء الشعر الجاهلي بلغة واحدة رغم بقاء بعض اللهجات اليمنية الصغيرة في بعض المناطق النائية على حالها. ومن هذه اللهجات، اللهجة الأخكيلية واللهجة السقطرية واللهجة المهرية إلى أن بعُدت هذه اللهجات عن أصولها الأولى. وبعد مجيء الإسلام تطورت اللغة العربية وما تزال تتطور. وظهرت لهجات جديدة تختلف عن اللهجات التي كانت موجودة في الجاهلية والإسلام والعصور التي لاحقتها. ولكن اللغة العربية الفصحى بقيت تقريبا على حالها كما كانت في عصر الاسلام، لأنه من طبيعة لغة الكتابة أنها بطيئة التغيير في الأصوات والقواعد. وسادت فكرة أن اللغتين اليمنية والعربية تمثلان لهجتين للغة العربية. ولذلك قسموا اللغة العربية على (العربية القحطانية - العاربة) أو لغة الجنوب أو اللغة الحميرية، و(العربية العدنانية -المستعربة)، أو لغة الشمال، أو اللغة المضرية (الحجاز ونجد وما جاورهما). وهذا التقسيم الأخير صحيح فقط بعد تغلب اللغة العربية على لهجات المنطقة. ولكنه ما زال تقسيما غير صحيح فيما يتعلق باللغات اليمنية القديمة(15).
قلنا أن سيطرة لغة أو لهجة على لغة أو لهجة أخرى تكون تدريجيا، وهذا الموضوع ينطبق على كيفية سيطرة لغة العدنانيين ولا سيما (لهجة) قريش على اللهجات الأخرى. فالخلاف الجوهري بين القحطانيين والعدنانيين هو الحضارة، إضافة إلى اللغة. وقد عاش العرب القحطانيون حياة متحضرة ومستقرة، إضافة إلى اشتغالهم بالزراعة. بينما كانت تغلُبُ على العرب العدنانيين البداوة وحياة التنقل من مكان إلى مكان آخر. وفي أواخر القرن الرابع الميلادي أو في أوائل القرن الخامس الميلادي ازدادت قوة قريش وهم من العدنانيين، من النواحي السياسية والاقتصادية والدينية. وأصبحت مكة مركز الثقافة واللغة العربية، حيث سيطرت لغة قريش. وضعف دور القحطانيين وخاصة بعد خضوعهم للحبشة تارة، والفرس تارة أخرى(16). فبعد سيطرة الفرس الزردشتيين على الجنوب، انتقل مركز الجزيرة تدريجيا إلى الشمال وخاصة الحجاز، ثم جاء الإسلام(17). وفي الشمال ظهرت دويلات مثل (الأنباط، البتراء، تدمر، الغساسنة)، والغساسنة في الأصل من عرب الجنوب، واحتلت الجنوب الشرقي من دمشق في أواخر القرن الثالث الميلادي. ودولة (كندة) ومنها ينحدر إمرؤ القيس، وهم أيضا في الاصل من الجنوب انتقلوا إلى أواسط الجزيرة (18). فالازدهار الحضاري في الشمال كان بعد ضعف دول الجنوب التي كانت أقدم من دول الشمال ومنها الدولة الحميرية الأولى التي كتبت لها البقاء إلى القرن الرابع الميلادي. والدولة الحميرية الثانية التي عاشت حوالي مئتي سنة. ولغة الحميريين كانت لهجة من لغتي سبأ ومعين الذين بدورهم أسسوا دولا في الجنوب(19).
نظرية طه حسين النقدية: اللغة العربية والشك في الشعر الجاهلي
يقول طه حسين أن "الشعر الجاهلي لايمثل اللغة الجاهلية" (20) وذلك بسبب الاختلاف بين لغة العرب العاربة (القحطانيين) ولغة العرب المستعربة (العدنانيين). وتمثل بقول أبي عمرو بن العلاء "ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا" (21). وشك بالوجود التاريخي لإبراهيم وإسماعيل رغم ورود أسمهما في التوراة والقرآن. فيقول: "للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل. وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا. ولكن ورود هذين الأسمين في التوراة والقرآن لايكفي لإثبات وجودهما التاريخي"(22). واعتبر الصلة بين العربية الفصحى (عربية العدنانيين) والعربية القحطانية كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة سامية أخرى. كما اعتبر تعلم إسماعيل العربية من جُرهم، ومسألة العرب العاربة والعرب المستعربة أساطير لايمكن الاعتماد عليها(23). ولهذا توصل إلى أن الشعر الجاهلي الذي بين أيدينا "لايمثل اللغة الجاهلية ولا يمكن أن يكون صحيحا. ذلك لأننا نجد بين هؤلاء الشعراء الذين يضيفون إليهم شيئا كثيرا من الشعر الجاهلي قوما ينتسبون إلى عرب اليمن"(24). حيث أن لغة اليمن كانت لغة غير لغة القرآن، كما أن هذا الشعر لايمثل حياة العرب في الجاهلية. ولهذا اعتبر طه حسين أن الشعر الجاهلي قد كُتب في عصر الاسـلام (25).
التحقق من آراء طه حسين في نظرية الشك بلغة العدنانيين ولغة القحطانيين
بعد مراجعتنا لكتاب محمد بن سلام الجمحي (طبقات الشعراء) وهو المصدر الأساس الذي نقل عنه طه حسين قول أبي عمرو بن علاء المذكور أعلاه، وجدنا أن طه حسين غيَّر في النص الأصلي، وهو كما يلي: "وقال أبو عمرو بن العلاء في ذلك، ما لسان حمير وأقاصي اليمن اليوم بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا"(26). وهناك فرق كبير بين النصين، فالنص الأول الذي أورده طه حسين، يعني وجود لغتين، لغة الجنوب (حمير) التي اعتبرها الرواة عربية عاربة، ولغة الشمال التي اعتبروها في البداية عبرانية أو كلدانية(27)، في حين يشير النص الأصلي أن لغة حمير وأهل الشمال عربية مع اختلاف في اللهجة (ولا عربيتهم بعربيتنا)، فغَيَرَها طه حسين إلى (ولا لغتهم بلغتنا). وهناك نقطة مهمة أخرى أهملها طه حسين وحذفها من اقتباسه عن أبي عمرو بن العلاء وهي قوله (أقاصي اليمن)، حيث لا يعني أبو عمرو بن العلاء لسان عرب اليمن أو عرب الجنوب كلهم، إنما لسان عرب أقاصي اليمن. وربما كان أبو عمرو بن العلاء يعني بقوله في الاختلاف بين اللهجتين، اختلافا في النطق والمظاهر الصوتية الأخرى حين قال (ولا عربيتهم بعربيتنا)(28).
ويقول طه حسين بأن "اللغة الحميرية أقرب إلى الحبشية القديمة منها إلى اللغة العربية، متأثرة بنحو هذه اللغة الحبشية وصرفها أكثر من تأثرها بنحو عربيتنا الفصحى وصرفها"(29). وهذا يعني أن اللغة الحميرية ليست عربية وإلاّ فكيف يمكن أن تكون تلك اللغة أقرب إلى الحبشية منها إلى العربية، وهذا مخالف لرأي أبي عمرو بن العلاء الذي اعتبر الحميرية لغة عربية ولكنها تختلف عن عربية الشمال. والأهم من ذلك أن طه حسين لم يفسر أو يعلل كيف وصل إلى تلك النتيجة باعتبار الحميرية أقرب إلى الحبشية.
حين تحدث ابن سلام الجمحي عن التباعد بين عرب الشمال وعرب الجنوب فيما يتعلق بقول أبي عمرو بن العلاء، ربما "جاء في معرض الاستنكار على شعر القرون الأولى الذي رواه إبن اسحق"(30) لما عُرف عنه بإفساد الشعر.
وإذا رجعنا إلى زمن أبي عمرو بن العلاء في القرن الثامن الميلادي، حيث عام 770، نجد أن لهجة حُميَر لم تكن اللغة العربية الفصحى التي كانت تكتب بها الشعر الجاهلي. وهذا الاختلاف في اللهجات طبيعي عندما تختلف بيئات القبائل العربية، وتتوسع مساحة الأرض العربية. فالخلاف بين لغة القحطانيين ولغة العدنانيين كان خلاف عصور تطورت اللغة خلالها من صورة إلى صورة أخرى حتى بين العدنانيين أنفسهم. وهذا ما أدى إلى ظهور لهجات عربية جديدة ومختلفة. ومن جهة أخرى فالقبائل القحطانية (اليمانية) نفسها لم تستقر دائما في الجنوب بل استقرت أحيانا في الشمال. فقبيلة جُرهم نفسها التي تعلم إسماعيل العربية منها استقرت في مكة، وقبيلة كهلان التي ينتمي إليها أمرؤ القيس في العروض بالشمال، وقبيلة خزاعة من حمير في مكة، وقبيلة الأوس والخزرج في المدينة. إضافة إلى ترحال بعض القبائل إلى الشام والعراق (الغساسنة والمناذرة)(31). وبسبب إنهيار (سد مأرب) وغرق المنطقة، وزوال الدولة السبئية في الجنوب التي عاشت بين القرن الثامن قبل الميلاد إلى أواخر القرن الثاني قبل الميلاد تقريبا، هاجر أهلها إلى الشمال. والسبئيون هم اللخمينيون المناذرة، وبهذا انتقلت التجارة إلى الشمال من الجزيرة العربية، حيث قريش ومَن حولهم. فالفوارق بين عربية الشمال وعربية الجنوب كانت في الأساس فوارق بين اللهجات(32). وعلى هذا الأساس فعامل اللغة بالمفهوم الذي طرحه طه حسين لايمكن أن يكون سببا قطعيا في إنكار الشعر والأدب الجاهليين. لـ "قد وجدت لغة أدبية واحدة بجانب اللهجات التي تتباعد فيما بينها كثيرا. وهذه اللغة الأدبية كانت مزدهرة في الفترة التي اكتملت فيها للقصيدة العربية أسبابها الفنية من عروض وايقاع وصياغة وموضوعات"(33). وهذا شأن اللغة العربية اليوم، حيث اللغة العربية الفصحى واللهجات المختلفة. لقد كانت هناك رابطة التنظيم الاجتماعي للعرب تجْمع القبائل العربية على الرغم من الحروب المستمرة بينها في العصر الجاهلي. وكانت هذه الرابطة عاملا لتماسك القبائل العربية(34).
أما بصدد شك طه حسين بوجود إبراهيم وإسماعيل رغم ورود أسمهما في التوراة والقرآن، واعتبر الدليل غير كاف لوجودهما التاريخي. واعتبر "أن هذه القصة نوع من الحيلة في اثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الاسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخرى"(35).
نقول في معرض ردنا على طه حسين، أن هناك كثيرا من الآثار المحسوسة لوجود إبراهيم وإسماعيل، إضافة إلى ورود أسمهما في التوراة والقرآن. ولا يجد الإنسان أدلة عقلية على عدم وجودهما. فإبراهيم كان أب الأنبياء ومنهم إسماعيل وإسحق. ولا نريد هنا أن ندخل تفاصيل الدراسات اللاهوتية عن الأنبياء. لكن ينبغي أن نشير إلى التاريخ فيما يتعلق بإبراهيم وإسماعيل. فطه حسين لم يشر في كل دراساته إلى أسم آخر أبا لإسماعيل، فلماذا هذا الشك الديكارتي الذي قاده إلى النكران، في حين أن ديكارت كان يجعل شكه غالبا وسيلة إلى اليقين؟ ما الذي يجعله أن ينكر وجود إبراهيم وإسماعيل، ولا يجعله ينكر الأنبياء الآخرين ومنهم عيسى عليه السلام ومحمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام؟ وما الذي يمنع أن يكون إبراهيم قد زار مكة وبنى بمكة أو بكة بيتا كحجرة من الحجرات للعبادة، وترك هناك إبنا له أسمه إسماعيل؟ مالذي جعل العرب يجدون لهم جدا أجنبيا لم يكن يتكلم العربية، وتعلم العربية من القحطانيين؟ لماذا لم يجد العرب واحدا غير إسماعيل من العدنانيين؟ ثم ما الذي جعل اليهود يسمون نفسها بالاسرائيلية نسبة إلى يعقوب بن إبراهيم وإجماع العرب على اعتبار بعضهم من ذرية إسماعيل؟(36).كل هذه التساؤلات والآثار المحسوسة لا تجد جوابا في شك طه حسين الذي لايقبله العقل والعلم فيما يتعلق بإبراهيم وإسماعيل.
التساؤل الكبير هو لماذا يحتاج العرب إلى الصلة بينهم وبين اليهود كأبناء أعمام؟ فالعرب لم يحبوا اليهود بسبب عدائهم للإسلام ومحاربتهم لرسول الله محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام. فهل من حسن سياسة الإسلام أن يبحث العرب عن ما أسماه طه حسين "حيلة" لإيجاد الصلة بينهم وبين اليهود؟ وهل كان شرط النبوة أن يكون النبي محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام من ذرية إسماعيل؟ ثم هل كان القرآن بحاجة لأن يثبت أن بينه وبين التوراة صلة، والإسلام ينعى على اليهود تحريفهم للتوراة؟ والقرآن يشنع على اليهود بتمردهم على موسى وهارون، وعبادتهم العجل؟ كيف يعقل أن يبحث دين جديد وهو الإسلام عن حيلة لإيجاد الصلة مع اليهودية، ثم يهاجم أهله"(37)، والإسلام هو الدين الذي إختاره الله تعالى للمسلمين طبقا للآية الكريمة ((اليومَ أكملتُ لكم دينَكُم وأتممتُ عليكُم نعمتي ورَضيتُ لكم الاسلام دينا))(38). وطه حسين نفسه قال عن القرآن "ونص القرآن ثابت لاسبيل إلى الشك فيه"(39).
يستشهد طه حسين بقول أبي عمر بن العلاء دليلا للشك بقول الرواة عن العرب العاربة والعرب المستعربة والشعر الجاهلي، ولكنه يرفض تأكيد أبي عمرو بن العلاء في قوله: "العرب كلهم ولد إسماعيل، إلاّ حمير وبقايا جُرهم. وكذلك يروي أن إسماعيل بن إبراهيم جاورهم وأصهر إليهم"(40). ووافق المؤرخ الأدبي محمد بن سلام الجمحي على هذا الرأي أن "أول مَن تكلم بالعربية ونسي لسان أبيه هو إسماعيل بن إبراهيم"(41) الذي نزل مع أمه هاجر بمكة. وإسماعيل لم يكن في الأصل عربيا عاربا إنما مستعربا تعلم العربية من قبيلة جرهم البدوية. وعرب الحجاز ينتسبون إلى إسماعيل(42). وعلى هذا فلغة القرآن هي اللغة التي كانت يتحدث بها رسول الله محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام، وهو من قريش، وقريش أحفاد إسماعيل عليه السلام(43). وهناك شبه إجماع عن وجود إبراهيم وإسماعيل، وأنهما جاءا إلى مكة، باستثناء قلة من الباحثين مثل (السير وليم مور) الذي نفى مجيء إبراهيم وإسماعيل إلى مكة. لكنه لم ينف وجودهما. في حين أن طه حسين اعتبر وجودهما أسطورة (44).
هوامش
1. محمد مندور: النقد والنقاد المعاصرون، مطبعة نهضة مصر، القاهرة (د. ت)، ص 228.
2. See: Abdelrashid Mahmoudi Taha Huusain’s Education from the Azhar to the Sorbonne, 1st ed., Curzon Press, New Baskerville 1998. pp. 76-77.
3. ميشال عاصي: الفن والأدب، ط2، المكتب التجاري، بيروت 1970، ص 119.
4. سعيد الغانمي: مئة عام من الفكر النقدي، دار المدى للثقافة والنشر، دمشق 2001، ص11.
5. محمد أركون: تأريخية الفكر العربي الاسلامي، ط2، مركز الانماء القومي، بيروت 1996، ص8.
6. ينظر: علي عبد الواحد وافي، فقه اللغة، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة (د. ت)، ص97-98.
يمكن الاشارة إلى بعض تلك النقوش مثل: نقش النمارة ونقش زبد ونقش حوران.
7. هناك على سبيل المثال النقوش اللحيانية التي تنسب إلى قبائل لحيان. وقد أشار بعض العلماء، كما نقله الدكتور عبد الواحد وافي في كتابه (فقه اللغة)، بأن أصل تلك القبائل من ثمود أو أنهم اندمجوا في هذه القبائل. وهناك أيضا النقوش الثمودية المنسوبة إلى القبائل الثمودية. ويرجع تاريخ معظمها إلى القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد. ينظر: المصدر نفسه، ص100.
8. ينظر: المصدر نفسه، ص107 و113.
9. من المهم أن نذكر الفرق بين كلمتي (العرب) و (الأعراب) لأن بعض القدماء استعملوا الكلمتين في حالة ترادف. على سبيل المثال: (الجوهري) في كتاب (الصحاح مادة العرب) و (الآلوسي) في كتاب (بلوغ الأرب 1/12 ). ينظر: يحيى الجبوري، الشعر الجاهلي خصائصه وفنونه، ط2، مؤسسة الرسالة، بيروت 1982، ص31.
لكن "يكاد الاجماع ينعقد على أن العرب هم سكان الحاضرة والأعراب هم سكان البادية". فأهل التفسير يذكرون "بأن العرب سكان المدن والقرى، والاعراب سكان البادية من هذا الجيل أو مواليهم. ويوضح هذا ويحدده ما جاء في التنزيل". المصدر نفسه، ص 31.
وتشير الآية الكريمة إلى هذه الحقيقة في قوله تعالى: (وممَّن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مَرَدوا على النِّفاق لا تعلمُهُم نحن نَعلَمُهم سنعذبهم مَرَّتَين ثم يُرَدون الى عذاب عظيم). سورة التوبة، آية 101.
لكن ليس كل الأعراب منافقين بدليل الآية الكريمة: (ومِنَ الأعراب مَن يؤمنُ بالله واليوم الآخر). سورة التوبة، آية 99.
10. حسن ابراهيم حسن: تاريخ الاسلام، ج1، ط14، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1996، ص13.
11. ينظر: المصدر نفسه، ص 14.
12. ابو زكريا يحيى بن شرف النووي: رياض الصالحين، ج2، دار الفكر، بيروت 1993، ص301.
13. ينظر: علي عبد الواحد وافي، فقه اللغة، ص74-77.
14. ينظر: علي عبد الواحد وافي، علم اللغة، ط9، دار نهضة مصر للطبع والنشر، القاهرة (د. ت)، ص240-243.
15. ينظر: علي عبد الواحد وافي، فقه اللغة، 79-86.
16. ينظر: المصدر نفسه، ص83.
17. ينظر: فيليب حتي وآخرون، تاريخ العرب، ط9، دار غندور للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 1994، ص101-102.
18. ينظر: المصدر نفسه، ص103-116 و 126.
19. ينظر: المصر نفسه، ص88-89 و 95.
20. ينظر: طه حسين، في الشعر الجاهلي، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة 1926، ص24.
21. المصدر نفسه، ص25.
22. المصدر نفسه، ص26. (من الجدير بالذكر أن طه حسين حذف هذه العبارة لاحقا في كتابه الذي صدر بعد حوالي عام بعنوان (في الأدب الجاهلي).
23. ينظر: المصدر نفسه، ص29.
24. المصدر نفسه، ص29.
25. ينظر: المصدر نفسه، ص41.
26. محمد بن سلام الجمحي: طبقات الشعراء، ج1، قرأه وشرحه محمود محمد شاكر، المؤسسة السعودية، القاهرة 1980، ص11.
27. ينظر: طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص25.
28. ينظر: فتحي أحمد عامر، في مرآة الشعر الجاهلي، دار المعارف، الأسكندرية (د. ت)، ص121.
29. طه حسين: في الأدب الجاهلي، مطبعة الاعتماد، القاهرة 1927، ص 86-87.
30. ينظر: فتحي أحمد عامر، ص 123.
31. ينظر: أحمد كمال زكي، (في الشعر الجاهلي نظرة أم نظرية) في: طه حسين كما يعرفه كتاب عصره، دار الهلال، القاهرة 1966، ص187-188.
32. ينظر: محمد عبد المنعم خفاجي، (نظرية طه حسين في الشعر الجاهلي)، في: طه حسين وقضية الشعر، اشراف صالح جودت، المكتبة العربية، القاهرة 1975، ص93-94.
33. المصدر نفسه، ص188.
34. ينظر: شكري عياد، (ديوان العرب من وحدة القبيلة الى وحدة الأمة)، في: الأدب العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1986، نقلا عن عبد المنعم تليمة، مدخل لقراءة في الشعر الجاهلي، ط3، دار النهر للنشر والتوزيع، القاهرة 1996، ص19.
35. طه حسين: في الشعر الجاهلي، ص26.
36. ينظر: محمد فريد وجدي، نقد كتاب الشعر الجاهلي، مطبعة دار معارف القرن العشرين، القاهرة 1926، ص70-71.
37. ينظر: المصدر نفسه، ص60-61.
38. سورة المائدة، آية 3.
39. طه حسين: في الشعر الجاهلي، ص16.
40. محمد بن سلام الجُمحي، ج1، ص9.
41. المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
42. للتفاصيل، ينظر: ابن كثير القرشي الدمشقي، قصص الأنبياء، ط5، دار الخير، بيروت 1995، ص139-140.
43. ينظر: محمد الجندي، (أسرار في هجرة ابراهيم باسماعيل الى مكة)، مجلة الرابطة، عدد 363، مكة يونيو/حزيران 1995، ص47.
44. ينظر فتحي أحمد عامر، ص138.